حكاية المحكمة الدستورية
[ad_1]
كان الهجوم علي المحكمة الدستورية في مجلس الشعب الذي جاء بعد الثورة, وبأغلبية إخوانية, إشارة إلي ما يمكن أن ينال السلطة القضائية من اعتداء علي دورها وانتهاك لحقوقها واستقلالها.
وهو أمر بالغ الخطورة, حيث إن ضمان استقلال القضاء واحترامه هو العلامة الأولي علي أي نظام سياسي سليم, فأي حكم ديمقراطي عادل يؤسس شرعيته علي احترام القانون والحفاظ علي استقلاله.
والحق أن ما حدث للمحكمة الدستورية هو علامة سلبية علي نقيض ذلك, وما لزم عنه من اعتداء علي استقلال القضاء لا ينفصل عنه في الدلالة. وتبدأ أحداث الحكاية بما كانت تقوم به المحكمة الإدارية العليا بمجلس الدولة من نظر في دعوي عدم قانونية تشكيل مجلس الشعب, علي أساس أن القانون الذي انتخب المجلس علي أساسه قد خص ثلثي مقاعد المجلس لانتخاب القوائم الحزبية التي لا يشغلها إلا أعضاء الأحزاب. ولم يخصص الثلث الأخير للمواطنين غير الحزبيين, بل أشرك الحزبيين معهم في الترشح. وقد قررت الإدارية العليا إحالة الدفع بعدم دستورية هذا القانون إلي المحكمة الدستورية العليا للفصل في هذا الأمر الذي هو من صميم اختصاصها. وقد أثار هذا الإجراء القانوني والدستوري ثائرة أعضاء حزب الأغلبية( الإخوان) في مجلس الشعب مع حلفائه من حزب الوسط والسلفيين. وبدأ تهديد المحكمة الدستورية العليا علي نحو مباشر وغير مباشر. ومن ذلك ما أعلنه رئيس مجلس الشعب من أن أحد الأعضاء قدم مشروع قانون لإعادة تشكيل المحكمة الدستورية, وأنه أحال المشروع إلي اللجنة المختصة لدراسته.
وفي موازاة ذلك طالب المستشار القانوني لحزب الحرية والعدالة بإعادة تشكيل المحكمة الدستورية العليا. وكان واضحا أن حزب الإخوان يريد أن يمارس نفوذه ويستعين بحلفائه, كي يرهب المحكمة الدستورية حتي لا تحكم بعدم دستورية القانون الذي انتخب الأعضاء علي أساسه وتقوم بحل المجلس. ولكن المحكمة الدستورية لم ترهبها التهديدات, وقامت بعملها, وحكمت بحل مجلس الشعب في الرابع عشر من يونيو2012, وذلك قبل عشرة أيام من إعلان محمد مرسي الإخواني رئيسا للبلاد في الرابع والعشرين من يونيو.2012 وأعدل ما قرأت في التعليق علي محاولات الأغلبية الإخوانية إرهاب المحكمة الدستورية ما كتبه المستشار طارق البشري الذي لم يعرف له موقف سلبي من الإخوان, بل ينظر إليه البعض بوصفه متعاطفا معهم. لكن يبدو أن الممارسة السياسية للإخوان أخرجتهم من دائرة التعاطف, خصوصا فيما لا يزالون يقومون به من استخدام السلطة التشريعية لتحقيق مكاسب حزبية ذاتية. وقد حاولوا في مجلس الشعب إرهاب المحكمة الدستورية, ضمانا لبقاء الأغلبية الإخوانية في الحكم. وكانوا بما فعلوا يمارسون خطيئتين, فيما يقول طارق البشري: أولاهما, أن المجلس استخدم السلطة التشريعية لا للصالح الوطني العام, ولكن للصالح الذاتي لحزبه ولأفراد معدودين. وهذا انحراف في استخدام السلطة التشريعية لا يقابله انحراف آخر. والأخري: أن المجلس أراد تغيير هيئة قضائية معروض عليها أمره بوصفه خصما في دعوي, فهدد بذلك استقلالية السلطة القضائية عن الهيئة التشريعية, وهو في أضعف الحالات يهدد السلطة القضائية وهيئة بها, تنظر دعوي بأنه سيغيرها, تهديدا لها في أثناء نظر دعوي هو خصم فيها.
وقد أصبح عداء الأغلبية الإخوانية للمحكمة الدستورية بسبب هذا الحكم ظاهرا في مواقف قيادات جماعة الإخوان من المحكمة إلي الدرجة التي دفعت الرئيس مرسي- بعد إعلانه رئيسا في الرابع والعشرين من يونيو2012 لمحاولة التملص من القسم أمام هيئة المحكمة الدستورية. ولذلك أقسم أمام الجماهير في ميدان التحرير, قبل يوم من ذهابه إلي المحكمة الدستورية التي ذهب منها إلي جامعة القاهرة, وقد حاول رجاله عدم نقل قسم المحكمة الدستورية عبر أجهزة الإعلام. ولكن المحاولة باءت بالفشل.
وقد قرر الرئيس محمد مرسي أن يتحدي قرار المحكمة بحل مجلس الشعب ويبطل قرارها, فدعا المجلس المنحل إلي العودة للانعقاد ابتداء من12 يوليو2012 بعد شهر تقريبا من انتخابه رئيسا, واجتمع المجلس ليوم واحد ليحيل قرار حله إلي محكمة النقض العليا لعلها تنجيه من حكم الدستورية, وانفض الاجتماع العاجل بعد نحو نصف ساعة, ليعود المجلس إلي تعليق عمله الذي هو في حكم المعدوم دستوريا. ولكن محكمة النقض حكمت بعدم الاختصاص, وكان علي الرئيس أن يسحب قراره عن عدم عودة المجلس للانعقاد, وذلك بعد أن انطوي وحزبه علي نية الثأر من المحكمة الدستورية, وتأديبها في المواد الخاصة بها من الدستور الجديد الذي أخذت تقوم بإعداده اللجنة التأسيسية الثانية للدستور, بعد أن حكمت المحكمة الإدارية العليا بحل الأولي, وذلك بسبب ما اتسم به تشكيلها من خضوعها لأغلبية إخوانية سلفية, وتم حل اللجنة بالفعل. وحدث توافق علي تشكيل لجنة ثانية, لم تخل من عيب الأولي, ومضت في عملها الذي لم يتسم بالحياد فاضطر الكثيرون إلي إعلان الانسحاب منها نهائيا في الأربعاء الحادي والعشرين من نوفمبر, ابتداء من ممثلي الكنيسة وانتهاء بممثلي التيارات الليبرالية والمدنية بوجه عام, فلم يبق فيها سوي ممثلي الإخوان والقوي السلفية, وغير المناوئين لهم من القوي المدنية طيعة القياد.
وخلال هذه الفترة صدر قرار رئاسي بتعيين الدكتور عبد المجيد محمود النائب العام سفيرا لمصر بالفاتيكان في العاشر من أكتوبر.2012 وكان الهدف واضحا للجميع, وهو إبعاده من منصبه بعد أن اتهمه الكثيرون, وأغلبهم من الإخوان, بأنه من أركان النظام السابق. ويبدو أن هذا التعيين كان بقصد الإبعاد الكريم عن هذا المنصب القضائي الخطير, خصوصا أنه منصب يكتسب صاحبه حصانة من العزل أو الإقالة, فلا يبعده عن منصبه شيء سوي الوفاة أو بلوغه سن التقاعد أو استقالة بمبادرة منه, وفقا لما تنص عليه المادة(119) من قانون السلطة القضائية. ولكن النائب العام اعتذر عن قبول منصب السفير, وأعلن عن بقائه في منصبه بقوة القانون. وكان ذلك تحديا واضحا ورفضا أوضح لمحاولة التخلص منه. ولذلك كان لابد من البحث عن سبيل لعقابه والتخلص منه. هكذا وضع النائب العام نفسه موضع المحكمة الدستورية التي سبقته في إثارة السخط الإخواني, فأصبح كأنه إياها, أو مثيلا لها في الالتزام بحماية الدستور والقانون بوصفهما الضمان الأوثق لدولة الديمقراطية والعدل والمساواة.
نقلاً عن صحيفة “الأهرام”
تنويه:
جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.