منوعات

أدوار أمريكية تتغير

[ad_1]

تصدر عن واشنطن هذه الأيام رسائل عن توجهات جديدة في الاستراتيجية الدفاعية الأمريكية، يبدو بعض هذه الرسائل في نظري متناقضاً، بينما يبدو بعضها الآخر متكاملاً ومنطقياً، كانت إدارة الرئيس أوباما قد أعدت نخب السياسة الخارجية والدفاع في الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا لاستقبال تحول، لعله من أهم التحولات التي أقدمت عليها القيادة السياسية الأمريكية منذ إنشاء حلف الأطلسي في أعقاب الحرب العالمية الثانية . لا أعتقد أن كلمة “استدارة” التي أطلقها بعض الخبراء على هذا التحول المفاجئ في الاستراتيجية الأمريكية، استخدمت كثيراً في كتب ووثائق وزارة الدفاع الأمريكية في سنوات سابقة، جاء استخدامها هذه المرة لتعبر تعبيراً جيداً عن اتجاه قوي لنقل الجانب الأكبر من الاهتمام العسكري لأمريكا في الخارج من القارة الأوروبية إلى منطقة الباسيفيكي وشرق آسيا، كما أنني لا أذكر أنه على امتداد عقود، ثارت ضجة في أوروبا بسبب تغيرات في توجهات الاستراتيجية الأمريكية، كالضجة التي ثارت بسبب هذا التحول، إذ جاءت فكرة نقل التركيز الاستراتيجي من الأطلسي إلى الباسيفيكي في ظروف هي الأسوأ منذ الظروف التي أحاطت بإقامة سور برلين، وهي أيضاً من بين الأسوأ في تاريخ الأزمات الاقتصادية في العالم الرأسمالي.

ومع ذلك يحق للمدافعين عن مشروع نقل التركيز في الاستراتيجية الأمريكية القول إنه رغم سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في أوروبا، ورغم حالة القلق الشديدة والتوتر التي تسود دول جنوب أوروبا وتهدد استقرارها الداخلي، فإن أوروبا تبقى آمنة عسكرياً لا يهددها خطر خارجي مباشر، كالتهديد من الشرق في سنوات الحرب الباردة، كذلك تبقى الحقيقة ناصعة وهي أن القارة الأوروبية لم تنعم خلال مئات السنين بفترة سلام طويل بين أقطارها كالفترة الراهنة، حيث لا تمثل أية قوة أوروبية تهديداً لدولة أوروبية أخرى .

هدوء وسلام وأمن إقليمي في أوروبا يقابله صراعات ثنائية متصاعدة بين دول شرق آسيا، وصعود خطر للمشاعر القومية في عديد من دول القارة، وعدم تكافؤ بين دول تتقدم بسرعة ودول تتقدم بتدرج وبطء ودول انتكست فيها عملية التنمية، هنا يجسد “العامل الصيني” السؤال الجوهري عن مستقبل الأمن والسلام في آسيا، وهو السؤال الذي يعكس واقع الحال في توازن القوى داخل مؤسسات الإقليم وسباق التسلح بين الصين واليابان والسرعات المتفاوتة التي تقفز بها الصين اقتصادياً واجتماعياً، وعلى صعيد السياسة الداخلية وأخيراً وليس آخراً وضع الاعتماد المتبادل بين الولايات المتحدة والصين .

يهمني بشكل خاص في هذه المرحلة ما يعكسه “العامل الصيني” في منظومة العلاقات داخل مجموعة “الآسيان”، التي تضم عشر دول، حيث تتعدد الشكوك وتتعمق حول طموحات الصين ونواياها في منطقة جنوب وجنوب شرق آسيا . لفت نظري بشكل خاص في الآونة الأخيرة، ما دار في اجتماع القمة الذي عقد في بنوم بنه لدول المجموعة، عندما خضعت حكومة كامبوديا، الدولة المضيفة ورئيسة المؤتمر، للإرادة الصينية فأحبطت مساعي فيتنام والفلبين لإثارة قضايا الجزر المختلف عليها في بحر الصين الجنوبي . ويزداد القلق داخل المجموعة بانتقال الرئاسة إلى بروناي، الدولة الصغيرة، التي يسكنها حوالي نصف المليون مواطن، والتي لا تملك إرادة الوقوف ضد العملاق الصيني، وبعدها تنتقل الرئاسة إلى ميانمار، الدولة التي تشترك في حدود بالغة الحساسية مع الصين، والأضعف والأفقر على الإطلاق . معنى هذا أن الظروف الإقليمية في إطار مجموعة “الآسيان” تزيد احتمالات أن تهيمن الصين على المنطقة وسياساتها خلال العامين المقبلين على الأقل .

من ناحية أخرى، استمر التوتر متصاعداً بين الصين واليابان بسبب الخلاف على ملكية مجموعة جزر تقع في بحر الصين الشرقي . المشكلة ليست في الجزر وملكيتها، ولكن في استغلال الطرفين لها لإثارة النعرات القومية التي اشتهرت بها الدولتان عبر التاريخ وخلفت تراثاً هائلاً من العلاقات المتوترة ومذابح وحروب مدمرة . أما التطور المثير فهو المتعلق بتسريب معلومات عن نية الحكومة اليابانية إدخال تعديلات جوهرية في الدستور الياباني، بحيث يصبح من حق اليابان الاحتفاظ بجيش كبير . المعروف أن الدستور الياباني الذي وضعته الولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كما فعلت مع ألمانيا وكما تفعل منذ ذلك الحين مع دول صغيرة عن طريق اتفاقيات ثنائية وثلاثية مثل الاتفاقيات الملحقة بالصلح المصري “الإسرائيلي”، هذا الدستور يفرض على اليابان “ألا تحتفظ بقوات برية وبحرية وجوية وإمكانات قتالية أخرى”، وأن تكتفي بقوات رمزية تحمل اسم “قوات الدفاع الذاتي” .

قد لا يعرف الكثيرون، خارج النخب المطلعة على دفاعات اليابان، أن الحكومات اليابانية المتعاقبة لم تحترم هذا النص، وأن مسؤولين أمريكيين يعترفون بأن القوات العسكرية اليابانية وأغلبها متقدم تكنولوجياً إلى حدود قصوى تستطيع الصمود في وجه أي هجوم صيني يشن فجأة على الجزر المتنازع عليها . بل إن أي خطة دفاع أمريكية في شرق آسيا لا بد أن تضع في حسابها القدرة العسكرية اليابانية . ولليابان مشكلة مع كوريا الشمالية بسبب الإصرار الغريب في بيونغ يانغ على تطوير أسلحتها النووية وصواريخها الباليستية بعيدة المدى، ولن تفكر اليابان في توجيه ضربة استباقية لمواقع هذه الأسلحة قبل أن تطمئن إلى أن الصين لن ترد دفاعاً عن كوريا الشمالية حليفتها منذ أكثر من نصف القرن .

هذا هو الإطار الذي تتحرك في داخله أوضاع شرق آسيا وجنوبها، خطة أمريكية هدفها المعلن التركيز على شرق آسيا في خطط الدفاع الأمريكية، وتصعيد في الموقف السياسي الصيني، المعادي لليابان، وتجربة كوريا الشمالية الجديدة لتفجير سلاح نووي، ووصول حكومة يمينية متطرفة في النزعة القومية إلى كراسي الحكم في طوكيو، وتوابع تصريح رئيس وزراء اليابان الذي أدلى به قبل سفره من طوكيو متوجهاً إلى واشنطن، وجاء فيه أن “الصين تريد فتح شجار مع اليابان وغيرها لإثارة الغرائز القومية لدى الشعب الصيني، ودفعه للالتفاف حول الحزب والقيادة، وقرب اعتلاء الحكم في بكين جيل جديد وسط مظاهر احتجاجات اجتماعية واسعة، وحملة إعلامية وسياسية أمريكية تحمل إلى الأوروبيين خطة أوباما لإنشاء منطقة تجارة حرة مع أوروبا” .

في هذا الإطار نفسه جرت المباحثات بين رئيس وزراء اليابان والرئيس أوباما، كان واضحاً من التعليقات والنقاشات الدائرة في واشنطن أن الطرفين لديهما الكثير مما يجب أن يقال وبوضوح، أوباما غير سعيد بتولي صقر من صقور اليابان وزعيم يميني متطرف إدارة شؤون اليابان في هذه الظروف المتوترة في شرق آسيا، وشينزو آبي رئيس الوزراء الياباني غير سعيد بتطور العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، ويطالب بدعم أمريكي لقرار اليابان تعديل دستورها وهو التعديل الذي قد يلغي تعبير قوات الدفاع الذاتي لمصلحة عبارة تعكس النية في إقامة جيش يليق بدولة كبرى . أراد شينزو آبي الياباني أن ينقل لأمريكا حقيقة سائدة في اليابان عبر عنها أستاذ في جامعة هوسي اليابانية بقوله “كثير من المحافظين يخشون أن تصبح الصين أكثر أهمية للأمريكان من اليابان” .

أتصور أن هذه المحاولات من جانب رئيس الوزراء الياباني وزعماء في الفلبين وفيتنام وربما في أستراليا وإندونيسيا وتايوان وكوريا الجنوبية والهند، لن تفلح في توريط الولايات المتحدة في نزاعات هذه الدول مع الصين . كان واضحاً خلال زيارة شينزو لواشنطن أن مستشاري أوباما تعمدوا ألا تظهر لقاءاته مع رئيس الوزراء، كما لو أن الطرفين يعدان لحلف أو خطة ضد الصين . أتصور أن إدارة أوباما لا تريد الإيحاء للصين بأن أمريكا تتمنى أو تسعى إلى أن تتحول علاقاتها التنافسية مع الصين إلى علاقات صراع وسباق على الهيمنة . أقصى ما تتمناه أمريكا، في ظل قيادتها الراهنة وتوجهات المؤسسة العسكرية الأمريكية، هو أن تلعب في شرق آسيا والباسيفيكي الدور الذي كانت تلعبه بريطانيا العظمى مع أوروبا في القرن التاسع عشر، يقول زيبنيو برجنسكي، مستشار الرئيس كارتر، في مقال نشرته قبل أسبوع صحيفة “كريستيان ساينس مونيتور” إن القيادة السياسية الأمريكية يجب أن تمنع أي انزلاق أمريكي نحو المواجهة مع الصين . يعتقد، وبحق، أن كلا الطرفين الصيني والياباني وأطراف دولية أخرى معرضة لاتخاذ قرارات غير سليمة إذا تركت نفسها لضغوط وتوترات متزايدة تدفع إليها حالة انحدار ملحوظ في قوة دولة عظمى من ناحية وحالة صعود ملحوظ أيضاً في قوة دولة ساعية للعظمة من ناحية أخرى . يشير أيضاً إلى أهمية أن تكون الولايات المتحدة واعية لخطورة ظاهرة تفاقم النزعات والنزاعات القومية في آسيا واحتمالات سباق عنيف بين دول شرق آسيا للحصول على المادة الخام والمياه والنفوذ الدولي .

بعض صور مستقبل الدور الأمريكي أوضح من غيرها، أتصور أن صورة الدور في أمريكا اللاتينية وصورة الدور في الباسيفيكي وشرق وجنوب شرق آسيا، هما الأوضح على الإطلاق، تليهما صورة الدور في أوروبا التي ربما تدخل عليها تعديلات جوهرية، بينما أخذت صورة الشرق الأوسط تتضح شيئاً فشيئاً، لتكشف عن استعدادات جارية لفك ارتباطات مع دول وتيارات في الإقليم، تسببت في خسائر باهظة تكبدها الاقتصاد الأمريكي وأخطاء فادحة ارتكبتها العسكرية الأمريكية ورهانات ضخمة خسرتها الدبلوماسية الأمريكية .

* نقلا عن “الخليج” الإماراتية

تنويه:
جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.

[ad_2]

Dr ahmed osama

مطور ومحرر صحفي لدى جريده اكسترا نيوز +201065964224 Dr ahmed osama

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى