التجاهل هو إحدى التجارب التي نعيشها بشكل شبه يومي نحن البشر، سواء كان ذلك في سياقات العائلة أو الأصدقاء أو العمل، فهي ليست حكرا على شخص دون آخر. وربما نمارسها نحن تجاه الآخرين، سواء شعرنا بالضيق من الحديث مع شخص ما، أو أردنا إيقاف بعض تصرفاته السلبية مثل التطفل والسخرية وغيرها. إلا أن البشر يختلفون في مدى تأثرهم وكيفية تعاملهم مع التجاهل، فبعضهم يتأثر بصورة أكبر من البعض الآخر، كما أن هناك أشخاصا قد يعمدون لمقاربة هذا التجاهل بطرق غير مباشرة، بينما يلجأ البعض للمواجهة المباشرة
قد يسبب التجاهل لديك شعورا بالشك الداخلي والحيرة، فتتساءل: هل فعلتُ خطأ ما؟ كيف أرد على هذا السلوك؟ هل يجب أن أنتقم بالتجاهل المتبادل أم أُنهي العلاقة تماما؟ وقد تمر بهذه التجربة بشكل متكرر، فتتساءل: لماذا يتجاهلني الجميع؟ ولماذا يتكرر هذا السلوك منهم؟
إن حاجتنا لقبول الآخرين واهتمامهم حاجة أصيلة لدى الإنسان، ولها أساس بيولوجي ونفسي قوي مثبت في العديد من الدراسات. وحين يشعر الإنسان بأنه لا يحظى بالانتباه والاهتمام الكافي، فقد يصل به الأمر على المدى الطويل إلى تأثر صحته الجسدية ومناعته وعاداته اليومية مثل النوم أو حتى أن يميل ليكون عدوانيّا بشكل أكبر(1)، ومن الجدير بالذكر هنا أن الشعور ببرود الآخرين وفتورهم في تعاملهم يُعدّ أقسى على النفس من كراهيتهم، كما يقول الاقتباس المشهور: “نقيض الحب ليس الكراهية، وإنما اللامبالاة”، ويقول جورج برنارد شو: “إن أسوأ ذنب يمكن أن نفعله تجاه الآخرين هو ليس كرههم، بل ألا نكترث بهم. فهذا هو جوهر اللاإنسانية”. كما أن التجاهل يهز ثقة الإنسان بذاته، ويخلق مشاعر جديدة من فقدان السيطرة والشعور بعدم استحقاق التقدير والاهتمام(2). بالإضافة إلى ذلك، من المعروف في علم نفس العلاقات أن العلاقات المتكافئة والتي يهتم فيها الشخصان ببعضهما بعضا دون ميل الكفة بشكل كبير لأحدهما تجاه الآخر، هي العلاقات الأكثر صحة وقدرة على الاستمرار، وجعل أصحابها أكثر سعادة ورضا(3).
الأسباب الآتية هي الأسباب الأكثر شيوعا في أغلب -وليس كل- حالات التجاهل المزمنة، ومن الممكن أن يوجد أكثر من سبب منها في الوقت نفسه بطبيعة الحال:
- هو ليس تجاهلا، وإنما افتراض متسرع من قبل الشخص الأول بسبب عوامل معينة، كوجود قلق مَرَضي، أو تفكير زائد، أو نمط تعلق قلق، أو نرجسية، أو حاجة ملحّة للحب والاهتمام، أو توقّعات غير منطقية من الشخص الآخر.
- وجود نمط عام من السلبية في الأفكار والسلوكات وكثرة التذمر؛ ما ينفّر الشخص الآخر منك فيتجاهلك.
- التمركز حول الذات والتحدث بشكل كبير دون الاستماع للآخر؛ ما ينفّر الآخرين منك ويجعلهم يتجاهلونك، لأنهم يشعرون بعدم تكافؤ العلاقة، أو أنهم يعطونك أكثر بكثير مما يأخذون منك.
حدث موقف مشابه من أشخاص آخرين؟ هل هناك سبب أو هل يمر الشخص الآخر بظرف ما يمكن أن نبرر به تجاهله لنا بعض الشيء؟
ماذا يعني لنا هذا الشخص؟ وما طبيعة علاقتنا به؟ هل نمتلك توقعات عقلانية ومنطقية من شكل التواصل معه؟ هل من الممكن أن أكون قد ضايقته بأمر ما أو أخطأت بحقه؟
- ارسم حدودك وحدّد حاجاتك ودوافع تواصلك مع الآخرين
“كل شيء يضايقنا في الآخرين قد يساعدنا على فهم أنفسنا بصورة أفضل”
– كارل يونغ
إن الشعور بتجاهل الآخرين هي تجربة إنسانية مؤلمة، لكنها قد تساعدنا على فهم أنفسنا واحتياجاتها بشكل أفضل. ربما نكتشف من التجربة أن شخصياتنا توافقية بشكل أكبر من اللازم (إذا برّرنا لهم كل شيء يفعلونه لكي لا نواجههم)، وربما نكتشف أنّنا نحتاج إلى مستوى معيّن من الاهتمام وشكل معيّن من التواصل علينا أن نكون أكثر وضوحا في التعبير عنه.
ربما ندرك أن لدينا نمط تعلق قلق؛ ما يعني أنّنا بحاجة إلى تطمينات الآخرين والشعور بحبهم بشكل متكرر ومستمر.
من المهم أن نستثمر هذه المواقف لمعرفة أنفسنا بشكل أفضل، ونستخدم هذه المعرفة في تحديد شكل العلاقات والتواصل الذي يناسبنا. ولا تخجل من وضع حدود مع الآخرين في حال تكرر مثل هذا السلوك ولم تستطع تحمّل ذلك.
ابتعد عن الأفعال المدفوعة بالانفعال
ذلك في الصداقة أو العائلة أو العلاقات الحميمية أو حتى علاقات الزمالة والعمل.
لا تخجل من التعبير عن مشاعرك للشخص الآخر، لكن حاول فعل ذلك دون انفعال زائد، بنبرة صوت هادئة وبالتركيز على مشاعرك وحاجاتك، لا على اتهام الشخص الآخر بأنه أخطأ أو على سلوكه هو. مثلا، بدلا من أن تقول:
“أنت تجاهلتني لمدة يومين دون أن ترد على رسائلي، لقد أشعرتني بمشاعر سيئة جدا”، يمكنك أن تقول: “شعرتُ بالتجاهل وبمشاعر سيئة بعد أن بقيت رسائلي دون إجابة لمدة يومين، ومن الصعب تحمل ذلك، هل كان هناك سبب ما؟”.
من المهم أيضا أن تعتذر في حال شعرتَ أنك أخطأتَ بحقه في أمر ما، تخلية المشاعر بينكما عبر الكلام هو أحد الطرق الممتازة في حل الإشكالات.
لا تنسَ أن تستمع للشخص الآخر بقلب واسع وعقل متزن، لا تتحدث أنت فقط، بل أعطه الفرصة للتعبير عما يجول بخاطره.
حاول أن يكون الكلام وجها لوجه، لأن الطرق الافتراضية فيها الكثير مما يمنع التواصل الإنساني الأصيل، وأهم ذلك هو لغة الجسد والشعور بالمساحة الحقيقية التي تجمعكما.
ردة فعل الشخص الآخر قد تخبرك الكثير عن سبب التجاهل، ففي حال كان نرجسيّا أو متلاعبا، سيحاول أن يُشعرك بالذنب، وسيجد صعوبة بالغة في الاعتذار عن فعله أو تبرير نفسه بشكل منطقي. ومن هنا، يكون التواصل حجر أساس أيضا في فهم الآخر وهذه المواقف بصورة أفضل.
كتب/ريم أبو الفتوح